كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض. فهي أداة تربية للنفوس، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ. وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه، وتتعاون في بناء القلوب، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب.
والحلقات المعروضة من القصة هنا هي: حلقة مولد موسى عليه السلام وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته. وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم، وما وقع فيها من قتل القبطي، وتآمر فرعون وملئه عليه، وهربه من مصر إلى أرض مدين، وزواجه فيها، وقضاء سنوات الخدمة بها. وحلقة النداء والتكليف بالرسالة. ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون. والعاقبة الأخيرة الغرق مختصرة سريعة.
ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي. وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ: {ونرِيَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
وعلى طريقة القرآن في عرض القصة، قسمها إلى مشاهد؛ وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال، فلا يفوت القارئ شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية.
وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد. والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد. وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة. وبين كل مشهد ومشهد، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد.
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث، والظرف الذي يجري فيه القصص، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث، والتي من أجلها يسوق هذا القصص، وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة. تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث، وتنكشف اليد التي تجريها. وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها. وانكشاف هذه اليد، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها، متمش مع أبرز هدف لها.
ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء. وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب.
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده، فالتحديد التاريخي ليس هدفًا من أهداف القصة القرآنية؛ ولا يزيد في دلالتها شيئًا. ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف عليه السلام الذي استقدم أباه وإخوته. وأبوه يعقوب هو إسرائيل وهؤلاء كانوا ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبًا كبيرًا.
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية {علا في الأرض} وتكبر وتجبر، وجعل أهل مصر شيعًا، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعًا.
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرًا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف، فقد يصبحون إلبًا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب.
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل، ليبادر بذبح الذكور، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة.
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى عليه السلام عند ولادته، كما وردت في هذه السورة: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}.
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون؛ ويقدر غير ما يقدر الطاغية. والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم، فينسون إرادة الله وتقديره؛ ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون. ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون.
والله يعلن هنا أرادته هو، ويكشف عن تقديره هو؛ ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلًا: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه؛ فيبث عليهم العيون والأرصاد، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد؛ وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدًا ولا تابعين؛ وأن يورثهم الأرض المباركة التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين. وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما، وما يتخذون الحيطة دونه، وهم لا يشعرون!
هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها. يعلن واقع الحال، وما هو مقدر في المآل. ليقف القوتين وجهًا لوجه: قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير. وقوة الله الحقيقية الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس!
ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها. والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها، وما ستنتهي إليه، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها.
ومن ثم تنبض القصة بالحياة؛ وكأنها تعرض لأول مرة، على أنها رواية معروضة الفصول، لا حكاية غبرت في التاريخ. هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام.
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار:
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة؛ ولد والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه.
وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة، ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة.
هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني}.
يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه {فألقيه في اليم}!!.
{ولا تخافي ولا تحزني} إنه هنا، في اليم، في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردًا وسلامًا، وتجعل البحر ملجأ ومناما.
اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعًا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.
{إنا رادوه إليك}. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. {وجاعلوه من المرسلين}. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة. مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح. وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردًا وسلامًا. ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى، ولا كيف نفذته. إنما يسدل الستار عليها، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني: {فالتقطه آل فرعون}.
أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟
وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟
نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفًا على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر، فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر. وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردًا من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزًا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات!
ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية: {ليكون لهم عدوًا وحزنًا}.
ليكون لهم عدوًا يتحداهم وحزنًا يدخل الهم على قلوبهم: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين}.
ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم، مجردًا من كل قوة، مجردًا من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب: {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا وهم لا يشعرون}. لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة.
ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره، وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!.
{قرة عين لي ولك}.
وهو الذي تدفع به القدرة إليهم ليكون لهم فيما عدا المرأة عدوًا وحزنًا! {لا تقتلوه}.
وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده!.
{عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا}.
وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلًا!.
{وهم لا يشعرون}.
فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!
وينتهي المشهد الثاني ويسدل الستار عليه إلى حين.
ذلك شأن موسى. فما بال أمه الوالهة وقلبها الملهوف؟.
{وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه}.
لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أُمٌ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟